والتساؤل عن ماهية المغزى العربي من وراء إدارة رسمية لحملات شعبية يزعمون بأنها تستهدف أنظمتهم وتسئ إلى دينهم، توضحه الأساليب الانتقائية في الرد على تلك الاستهدافات والإساءات، ويظهره خروج المسلمين في أزمة الرسوم الدانمركية السابقة على المستويين الرسمي والشعبي والدعوة لمقاطعة البضائع الدانمركية وحرق سفاراتها في عواصم الدول العربية رغم أن هذا الموقف الرسمي الشعبي لم يتفجر إلا بعد نحو خمسة أشهر من نشر الرسوم، في الوقت الذي لم نسمع فيه صوتا احتجاجيا عربيا رسميا واحدا عن موقف دول أخرى تقوم بالإساءة للإسلام خاصة عندما حرق المصحف الشريف في جوانتانامو أو نسمع عن قيام أي دولة عربية بسحب سفيرها في واشنطن بسبب سياسات الأخيرة المتحيزة مع إسرائيل وتصرفاتها العدوانية ضد المصالح العربية والإسلامية
وتعتبر أزمة تصريحات بابا الفاتيكان بيندكيت السادس عشر في ما نسب إليه بإساءته للدين الإسلامي ورسوله الكريم سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام أحد حلقات البنج بونج الإسلامية الغربية، والغربية الإسلامية، وهي اللعبة التي قد يكون من المنطقي والعلمي أن نقول أنها تعود إلى عصر ما بعد سقوط الشيوعية في نهاية الثمانينات والتي حاولت من بعدها دراسات غربية في البحث عن عدو جديد يحل محل الشيوعية، وهو الأمر الذي لم يتعب فيه أساطين الثقافة الغربية كثيرا، حيث كان الإسلام مقدما لهم على طبق من ذهب وما يحتويه هذا الطبق من مقبلات المتطرفين الإسلاميين الراديكاليين ومشهيات الصراعات المسلمة المسلمة بين السنة والشيعة، هذا إلى جانب وجود العرب المسلمين الذين يشكلون الطبق الرئيسي على مائدة الطعام الغربية
نعم أنا أعترف بأن الإسلام مستهدف، لكن لا يوجد ما من شأنه أن يسئ إليه، حيث أن الله قد أعزه وحماه طوال تلك الدهور والقرون من الضياع وحفظ القرآن من التحريف، وكل ذلك يدعوني على التأكيد بأنه ليس البابا هو الذي يسئ للإسلام، وليست تلك الصحيفة المغمورة هي التي تسئ لأشرف خلق الله، وليس الجيش الأمريكي كله هو الذي يمكن أن يضر الدين حتى ولو داس على المصحف الشريف، وإنما الذي يسئ للإسلام ليس سوى المسلمين أنفسهم، فهم الذين يظهرون أمام العالم كجماعة من البربر الأغبياء يقتلون هذا ويذبحون هذه، يكفرون ذلك ويستبيحون تلك، يتصارعون ويتناحرون فيما بينهم ويدعي كل طرف فيهم أنه الحق وأنه الصحيح، وهو الأمر الذي استغلته نظمنا السياسية المستبدة في حملاتها الداعية لجعل بلدانها مستهدفة من الغرب
العرب قاموا بدور أسد الغابة القوي ضد الدنمارك سابقا ويقومون بنفس الدور ضد الفاتيكان حاليا، رغم أن هذه الغابة التي يتسابقون فيها لا تعترف بالأسود ملوكا لها، ولا تعترف بهذه النوعية من الحيوانات أصلا، وربما لا تجد وجها للتشابه بين العرب والأسود سوى أن لكليهما ذقون كثيفة، ولكن ما يقلقني ويحيرني فعلا هو لماذا يتحولون إلى مجموعة من الأرانب عندما تقوم الولايات المتحدة أو إسرائيل أو أي آخر قوي في الغابة الدولية عندما يدوسون على المصاحف وعندما ينتهكون حرمات المسلمين وعندما يصورون الرسول الكريم على أنه قرد أو خنزير، هم فقط يلعبون هذا الدور لأنهم يريدون إيهام شعوبهم بأنهم مستهدفون، الكل يريد النيل منا، الجميع يكرهنا ولا يتمنى لنا التنمية المزعومة، لا يريدوننا أن نكون أمما ناهضة، ولا يريدون الاعتراف بفضلنا عليهم في وقت من الأوقات، وهي فرصة مناسبة للبطون العربية الكبيرة من أجل إلهاء شعوبها عما يسرقونه من أموالهم وعما يشفطونه من دمائهم، إنها دائما فرصة عظيمة لأي حاكم مستبد ليسكت شعبه عن فساده ويوقف معارضة جماهيره ضد ديكتاتوريته، ويترك لهم الحرية الكاملة في أن الكلام عن حسنات رسول الله العظيمة والدفاع عن الإسلام الذي يشوه صورته مجموعة من الكفرة والملحدين
هذه هي الحرية في بلادنا، وفي مصر على وجه التحديد، حرية الصمت على الفساد والسكوت عن الظلم، في الوقت الذي يسمح فيه بالدفاع عن الإسلام الذي لا يمكن أن يسوئه أحد، والدفاع عن رسول الله الذي لا يمكن لأحد مهما كان أن ينتقص من خلقه ومن حكمته ومن عظمته. الحرية في بلادنا هي أن نتكلم عن الرسول المعصوم من الخطأ وألا نفتح أفواهنا عن الرئيس الظالم المستبد، أن ندافع عن الإسلام وكتابه الذي خصه الله بالحماية ولا نطالب بحقوقنا المسلوبة في أقسام البوليس وفي مكاتب الحكومة وفي دوائر الصحة وفي كل مكان بالمحروسة، ولا نطالب بأموالنا الذاهبة إلى جيوب رجال الأعمال ورجالات الحزب الوطني وأصدقاء الرئيس وأصدقاء ابن الرئيس وأصدقاء زوجة الرئيس
لم يكن من الغريب أن يصرح شيخ الأزهر في لهجة حادة نادرة بأنه يرفض ما صرح به بابا الفاتيكان لأنه ببساطة قد زج باسم مصر الدولة الإسلامية التي تضطهد الأقباط وتنكل بهم في كلمة بابا الفاتيكان، رغم أنه نفسه الذي وصف قضية الرسوم في كلمتين: رجل ميت ونحن كمسلمين نحترم حرمة الموتى، وبالمناسبة الميت هنا هو نبي الإسلام الكريم. وموقف شيخ الأزهر هنا له ما يبرره فهو يعتبر بحق رجل الدين المثالي عند الخلفاء الأمويون والعباسيون، فهو يستطيع أن يحل ما حرمه الله بكل بساطة مثل جعله الظلم عدلا والفساد تجارة والاستبداد حكمة ونعمة، كما أن بمقدوره أن يحرم ما أحل الله به عن طريق جعل كلمة الحق كذبا والتظاهر السلمي خروجا على الحاكم وطلب الرحمة هو الكفر بعينيه، وذلك كله من أجل إرضاء السلطان وابن السلطان، عفوا الرئيس وابنه. لقد صلى شيخ الأزهر على نجيب محفوظ مرتين في الحسين وآل رشدان رغم أنه ومؤسسته الأزهرية المستبدة لعبا دورا كبيرا في منع روايته الأشهر، أولاد حارتنا من الوصول لقارئها باعتبارها إلحادا وكفرا بالله عز وجل وذلك من أجل أن يظهر رئيسه محبا لرجال الفكر ويمشي في جنازاتهم، وهو نفسه الذي سلم وعانق، وقبل، وربما ضاجع، حاخامات اليهود من أجل صبغ السلام المصري الإسرائيلي بعلبة دهان دينية خالية من المواد الحافظة
الدين إذن، وهذه مقولة قديمة سوف أكررها للأسف، عند دخوله عالم السياسة فإنه يكون خير سند للحاكم في تحقيق الاستدامة على العرش، وأضيف عليها بأنه حينما يعانق الهلال الرئيس لا الصليب فإن حكم الشعوب يكون أيسر وتوجيههم لحملات بعيدة عن الأهداف السياسية الدنيئة يكون مصحوبا بشهادة ضمان أكيدة مدى الحياة لكل حاكم مفادها من القصر إلى القبر ولا تقلق على مستقبل ابنك
من ناحية أخرى، تفوح رائحة غريبة لنظرية مؤامرة من نوع ما على محتويات رسالة البابا عن الإسلام وغياب العقلانية عنه، فبنديكيت السادس عشر هو نفسه الذي دافع عن الإسلام إبان أزمة الرسوم الدنماركية، وهو الذي أبدى غضبته من استهداف الملحدين في شتى أنحاء الأرض كل الديانات السماوية ومنها المسيحية والتعرض لرموزها في صور تسئ لهم، فكان من شأن تصريحاته الأخيرة أن تصيبني وتصيب معي عدد لا بأس به من المحايدين باستغراب شديد، الأمر الذي يدعوني إلى القول بأن ما حدث هو صفقة سياسية مع القوى الغربية المحافظة التي تعرضت لنكسات كبيرة أثرت على مصداقيتها أمام شعوبها وأمام العالم، كان آخرها ما حققته المقاومة اللبنانية من نصر على إسرائيل وانخفاض شعبية جورج بوش وتوني بلير في دولهم والهزيمة الساحقة التي أدارتها الدبلوماسية الإيرانية تجاه خصومها الغربيين والملف النووي الشائك لكوريا الشمالية وغير ذلك الكثير، الأمر الذي جعل ضغوطا من نوع ما، أو صفقة من نوع ما مع بابا الفاتيكان وهو أعلى سلطة دينية في العالم من أجل أن يصرح بما قال، والجميع يعرف كيف سوف تكون ردة الفعل العنيفة للمسلمين في العالم وكيف سوف تدير حكومات الدول الإسلامية، الأنظمة العربية على وجه التحديد، هذه الأزمة الجديدة لشغل شعوبها عما تدبره، وهو الأمر الذي يفضي في النهاية إلى تأكيد نظرة الغرب إلى الإسلام بأنه دين دموي وانتشر تحت حد السيف، مما يدعو الشعوب الغربية مرة أخرى في تجديد الثقة في زعمائها ودعمهم في حربهم ضد الإسلام العنيف في كل مكان مهما كلف الأمر
عزيزي العبيط
"حيث كان الإسلام مقدما لهم على طبق من ذهب وما يحتويه هذا الطبق من مقبلات المتطرفين الإسلاميين الراديكاليين ومشهيات الصراعات المسلمة المسلمة بين السنة والشيعة، هذا إلى جانب وجود العرب المسلمين الذين يشكلون الطبق الرئيسي على مائدة الطعام الغربية"، قراءة صائبة، مع استنتاج صائب هو الآخر حين تقول:"وإنما الذي يسئ للإسلام ليس سوى المسلمين أنفسهم"..
شكرا على هذا الغضب العاقل والبصير.
أخوك
جُحَا.كُمْ