Monday, January 02, 2006
بين مصر والسودان

بعد نحو أربعة شهور من الانتظار تحول حلم أكثر من ثلاثة آلاف لاجئ سوداني في مصر إلى كابوس مزعج بدأ بسقوط خمسة وعشرون قتيلا ، وبات الموقف التعقد نتيجة طبيعية ومتوقعة في ظل خلط واضح للأوراق. ووفقا للقراءات الأولى للحدث ، تشير أصابع الاتهام إلى ثلاث جهات ينفي كل منها مسئوليته عما حدث ويلقي بها إلى ملعب الآخر

الحكومة المصرية تبدو هي المتهم الأول والرئيسي بعد أن ظهرت بوصفها الجاني الوحيد أو القاتل الذي أزهق أرواح خمسة وعشرين من اللاجئين العزل بينهم نساء وأطفال ، ولكي تنفي الأمم المتحدة عن نفسها المسؤولية ، راحت تجهز لائحة الاتهام للحكومة المصرية ، متهمة إياها باستخدام العنف المفرط وهو الأمر الذي وصفه الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان بأنه مأساة رهيبة ليس لها ما يبررها

في المقابل ، سارعت الحكومة المصرية إلى الكشف عن مطالبات متعددة تقدم بها مكتب مفوضية اللاجئين في القاهرة لحمايته من آلاف اللاجئين المحتشدين أمام مقره في القاهرة ، في الوقت الذي كشفت فيه القاهرة عن مسؤولية مفوضية الأمم المتحدة في تجميع هؤلاء اللاجئين ووعدهم بالهجرة إلى بلد ثالث عبر الأراضي المصرية هربا من جحيم الحروب والصراعات والفقر في السودان

أما الحكومة السودانية ، التي تعد المتهم الثالث في الحدث ، فقد بدت في موقف صعب حيث واجهت الاتهامات بالصمت والتواطؤ مع الحكومة المصرية ، واتهمت في الوقت ذاته بالتقصير في حماية أبنائها ، خاصة أن معظمهم كان من أبناء الجنوب

ولعل أبرز الملاحظات على الحدث هو التكرارية في النزوع التلقائي للحكومة المصرية لحل مثل هذه الأزمات وذلك من خلال العنف ، وليست حادثة المهندسين إلا حلقة في مسلسل طويل من العنف مارسه الأمن المصري بحق من يعارضه ، يستوي في ذلك السودانيون والمصريون

ويعزو كثير من المراقبين العنف الذي مارسه الأمن في الانتخابات الأخيرة إلى هذا النزوع التلقائي لاستخدام القوة وإن كان النظام المصري بدا أكثر ضعفا وأكثر غباءا في التحرك لمواجهة اعتصام قاربت مدته على الأربعة شهور ، في حين أن أي اعتصام بالداخل لم يكن يستغرق فضه بضع ساعات

أما الحكومة السودانية فقد فضلت الحفاظ على الصورة الباهتة في علاقاتها الشكلية مع القاهرة على حساب هؤلاء اللاجئين الذين حملتهم المسؤولية ، وفوضت للحكومة المصرية حرية التصرف والتعامل مع اللاجئين وراحت تتحدث عن حق مصر في الحفاظ على أمنها بالشكل الذي تراه مناسبا

في الواقع ، إن الحكومة المصرية كانت في مرمى نيران المجتمع الدولي وبدت وكأنها بين مطرقة الخارج الذي تخلى عن وعوده باستقبال هؤلاء اللاجئين خاصة الاتحاد الأوروبي ، وبين ضغوط الداخل المتمثلة في بعض القوى السياسية المعارضة ، التي راحت تستغل الأزمة لتصعيد المواجهة مع الحكومة المصرية من خلال تشجيع اللاجئين على المضي قدما في تصعيد احتجاجهم

إن صبر الحكومة المصرية على اعتصام السودانيين أكثر من ثلاثة أشهر كان مبررا قويا لعدم انهاء الأزمة بالشكل الدراماتيكي شديد العنف الذي تابعناه على الفضائيات ، وكان يكفيها أقل من ثلاثة أيام فقط لمحاصرتهم دون استخدام القوة الأمر الذي كان سيجبرهم على مغادرة المكان لو قطع الماء والغذاء عنهم ، ولكن النظام كان في منتهى الغباء في حسم الأزمة باستخدام القوة المفرطة لترحيلهم في ساعات وقتل أكثر من عشرين شخص منهم وهم عزل بلا سلاح

ربما يكون النظام المصري قد تحرك دفاعا عن هيبته المستباحة ولكنه ارتكب خطأ آخرا ، ربما لم يتداركه البعض حتى الآن ، وهو في الحقيقة خطأ استراتيجي ، فمصر تعتمد حاليا في تأمين احتياجاتها المائية على المياة الإضافية التي تحصل عليها من السودان لأن حصتها وحدها لا تكفي ، ومن ثم لو انفصل الجنوب عن شمال السودان - كما تشير التوقعات - فسوف يتهدد أمن مصر المائي ، لأنها لن تحصل بعد ذلك على مياة مجانية في حالة وجود دولة جديدة غير صديقة في الجنوب ، فالحرب التي دارت رحاها بين شمال السودان وجنوبه تسببت في كراهية الجنوبيين لكل ما هو عربي أو مسلم وما فعله الأمن المصري مع اللاجئين من جنوب السودان قد عزز من مشاعر الكراهية وأزاد عليها الكثير

ختاما ، فهناك جريمة شهدتها أرض مصر ، وهو أمر ليس بالجديد على مصر أو المصريين ، وقد تخلى كل طرف عن مسؤوليته في الجريمة ، وبقي اللاجئون وحدهم في دائرة الاتهام ، وبعد أن اختلطت كل أوراق القضية إلا إنها لا تزال مطروحة بقوة ، ويبدو أن ما حدث قد كشف النقاب فقط عن دخان النار التي تشتعل منذ فترة تحت الرماد
 
posted by المواطن المصري العبيط at 2:52 PM | Permalink |


0 Comments: